
Sign up to save your library
With an OverDrive account, you can save your favorite libraries for at-a-glance information about availability. Find out more about OverDrive accounts.
Find this title in Libby, the library reading app by OverDrive.

Search for a digital library with this title
Title found at these libraries:
Library Name | Distance |
---|---|
Loading... |
في البدء كانت الوساطة، ثم إن الأخصام نزلوا عن بعض سلطاتهم، فكان التحكيم، ثم إن الكيان الجديد، المسمَّى «دولة»، نزع ما بقي من تلك السلطات، فكان القضاء. أو إن شئت فقل: في البدء كان الوسيط، ثم إن الوسيط توسع في صلاحياته، فصار حَكَمَـاً، ثم إن الحكم تمادى، فأمسى قاضيًّا.
الخطوة الأولى نحو العدالة تولاها وسيط مختار من «أهل الخير»، يرتضيه الخصوم، يتطوع بما له من قرابة، ويتدخل بما له من مكانة، فيعرض الصلح، ويستأصل الخلاف، ويسوي النزاع، بما يقترحه من حلول يقبلها الطرفان، يقبلانها إما خجلًا من المغالاة في الخصومة، أو إكبارًا للوسيط، وإشفاقًا على هيبته، أن يخيب مسعاه الكريم. ثم إن تنظيم العدالة أبى إلا أن يسلب الأطراف بعض ما كان بأيديهم من صلاحيات؛ فترك لهم اختيار«الحَكَم» إلا أنه أجبرهم على قبول «حُكْمه»، بعد أن كانوا بالخيار أمام «الاقتراح»، الذي «يتطوع» به «الوسيط»، يقبلونه أو ينبذونه، فكان التحكيم عتبة وسطى بين الوساطة والقضاء.
لأجل هذا لم يكن مفاجئًا أن يكون حل «مشكلة» القضاء، بالسير في الاتجاه ذاته؛ فيتخفف الخصوم من ذلك الإجبار المزدوج الذي يخضعان له في التقاضي، فيصبح بوسعهما اختيار «الحَكَم»، دون أن يكون لهما اختيار «الحُكْم». ثم لا يلبث الخصوم أن يضيقوا كذلك بالتحكيم، حتى يصبح الحديث عنه بأنه صنو للتقاضي التقليدي، ورث عنه عيوبه، وأصابه ما أصاب سلفه من عوار؛ فأمسى نسخة مصغرة منه، فهو «المعركة ذاتها في ساحة مختلفة» أو هو «المسرحية ذاتها، على مسرح جديد». لكل هذا، كان من المتوقع تمامًا أن يتلمس الخصوم طريقًا يستردون فيه كامل حريتهم في اختيار الأمرين كليهما، «الحُكْم» و«الحَكَم»، «المسرحية» و«المسرح»؛ فلا يجد المشتغلون بالعدالة بدًّا من العودة إلى المنبع الأول، فيستدعون الوساطة، ويردون إليها جلالها القديم، ويزيدون أن يضعوا لها نظامًا دقيقًا، يرصد أنواعها ومراحلها، ويعدد أهدافها وقيمها، ويرسي لها المبادئ، ويستن لها القواعد، ولا يكبلها بطول إجراءات، ولا يعوقها بكثرة مواعيد، إذ بها يفرّ الأطراف من الإجراءات والمواعيد، وبها يلوذون من تنامي النفقات التي تبهظهم، ومن خطر احتمال التعرض لأحكام مفاجئة، دون أن يسعهم إلا تنفيذها صاغرين.