الفابريكة

ebook رواية

By أحمد حلمي إبراهيم

cover image of الفابريكة

Sign up to save your library

With an OverDrive account, you can save your favorite libraries for at-a-glance information about availability. Find out more about OverDrive accounts.

   Not today

Find this title in Libby, the library reading app by OverDrive.

Download Libby on the App Store Download Libby on Google Play

Search for a digital library with this title

Title found at these libraries:

Library Name Distance
Loading...

مَن أنا؟! سؤال ليس في محله. ولماذا يجب أن يكون الاهتمام بالقائل عوضًا عمَّا يقول؟! أنا الشخص الذي يحدثكم الآن، وفي هذا الكفاية. أنا مَن يحمل مفتاح الحكاية، أنا القادر على فض غشاء الأسرار، فأنصتوا إليَّ، أو لا تفعلوا. افتحوا عقولكم، أزيلوا عنها الصدأ، تحرروا مما يثقل أجسادكم نحو الأرض، وحلقوا معي.

من أين أبدأ الحكاية؟ هكذا يكون السؤال. تفاصيل كثيرة، وأحداث متناثرة. أحداث مشتتة عبر أزمان ممتدة، كلها تصلح كمتكأ لانطلاقتي، فمن أين أبدأ؟

ربما من هذا المشهد الواقعة تفاصيله منذ قرابة قرن من الزمان؛ هل ترون؟ عبر الظلام، حقول وأشجار، لن نقدر الآن على تمييز أنواعها؛ ربما إذا فاجأنا شروق الشمس في لحظة قريبة رأيناها بشكل أوضح. دقيقو الملاحظة منكم لن يستسلموا للظلام، سيرون في البعيد نقاط ضوء تتحرك متقاربة، تتلاصق حينًا، وتتشتت حينًا. هل تسمعون؟ ليس حفيف الأشجار، ولا صراخ حشرات الحقول. أنصتوا إلى ما وراء ذلك. هو صوت رجل يلهث، يعلو، يقترب. صوت الخطوات تدهس المزروعات في الحقول. شخص يقترب، بل شخصان. تشابك الشجيرات يتكسر ويظهر ذلك الرجل. عجوز، هذا واضح رغم الظلام. القمر ينعكس على شعره الأبيض الكثيف الناعم. كل الشيوخ شعرهم أبيض، كل الشيوخ تخنق التجاعيد ملامح وجوههم، كل الشيوخ يلهثون بذات الطريقة حين بذل الجهد. شيخنا فقط يختلف كونه ليس من أهل هذه الحقول، ولا ذلك البلد؛ هو خواجة واسمه رينار، سيمون رينار. وإن كان الاسم غير متداول في القرية. في قريتنا هو "الخواجة" وكفى. لا حاجة لأهل القرية لدلالات أخرى، فلا خواجة هنا سواه. الخواجة كان يهرب، هو وذلك الغلام الراكض مشبوكًا في يده، هذا الضئيل الأسمر، الذي رفع طرف جلبابه كحزام على وسطه، فلا يتعثر فيه، لتبدو للقمر ساقان رفيعتان سمراوان. ربما لا ترون سمارها في الظلام، ولكنني أؤكد وجوده. الغلام اسمه حسونة، وهو ابن الخواجة. لن أسمح لتساؤلات عن كيفية كون حسونة ابنا لسيمون رينار؛ تخرجنا عن مسار الحدث. والآن، هل تسمعون صوت النباح البعيد؟ الخواجة يعرف أن الباشا دفع بكلابه إلى المطاردة، فأي أمل باقٍ له سوى مواصلة الجري على حافة الترعة، سعيًا لإدراك القنطرة الصغيرة قبل أن يلحقوا به. الجسر الرئيسي المفتوح على قلب القرية فاته منذ زمن؛ تجاهله عن عمد. يعرف أن عبيد الباشا ينتظرونه هناك؛ السود الضخام، يعرفهم ويعرف ما تفعله سياطهم في اللحم البشري. برغم العمر المتقدم، والجسد القريب من التهالك، زاد سرعته. جسد حسونة الضئيل، بالحقيبة الثقيلة المشبوكة بكتفه، فشل في مجاراة سرعة أبيه. مقاومة جسد حسونة تتزايد وتضاعف من جهد العجوز. صوت النباح يزداد وضوحًا. ينظر خلفه؛ أضواء المشاعل تقترب. أمامه الآن أمل أخير كان يتحاشاه؛ عبور الترعة سباحة. توقف وأنزل الحقيبة القماشية عن كتف الصغير. شعر بثقلها في يديه، كيف يمكن أن يعبرا الماء بها؟ فتحها وأخرج دفتر أعماله، وأيقونة العذراء، وكيسًا قماشيًّا صغيرًا تُجلجل به قطع النقود النحاسية. وضع الأيقونة وصرة النقود في جيب بنطاله، وأمسك الدفتر في يده حتى لا يهلكه الماء. ألقى الحقيبة في الترعة، وشاهدها تغرق، غير آسف على ملابسه وبضعة تذكارات من ترحاله الطويل؛ لا قيمة لها إذا ما وضعت في ميزان واحد مع حياته ذاتها. سحب حسونة من يده، غاصا في الماء. حسونة كان سباحًا بارعًا في ماء الترعة، الأسرع والأقوى كان بين أترابه. الخواجة يعرف هذا، فلم يحمل همه. هو لم يكن سباحًا سيئًا، ولكن كبر السن، وطول البعد عن الماء، وتقززه من ماء الترعة ما أوجف قلبه. صلى للرب ألا يجد الماء غامرًا. كان يتحسس بقدميه الأرض المفككة تحته خشية الانهيار. يده اليمنى مرفوعة بالدفتر بعيدة عن سطح الماء. حسونة بضربات ذراع معدودة كان قد بلغ الشط الآخر، والخواجة

الفابريكة