انشغلت الدراسات التاريخية في تخصص التاريخ اليوناني والروماني على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بدراسة التاريخ السياسي والعسكري لليونان والرومان في بلادهم، وفي المناطق التي توسعوا فيها حول حوض البحر المتوسط وما وراءه، وكذلك في علاقاتهم البينية مع الأمم المجاورة إن حربًا وإن سلمًا. لقد كان جُلُّ اعتماد الكاتبين في هذا المجال على الكتابات الأدبية الكلاسيكية باليونانية واللاتينية من مؤرخين ومفكرين وأدباء وجغرافيين وعلماء في فروع العلم المختلفة. إن هذه الذخيرة المعرفية الكلاسيكية الهائلة التي بذل علماء الكلاسيكيات جهدًا جبارًا في تجميعها في سلاسل معرفية مترجمة – جنبًا إلى جنب مع النصوص الأصلية – إلى اللغات الأوربية الحديثة – والتي من أبرزها سلسلة "مكتبة لويب الكلاسيكية Loeb Classical Library (LCL)" المُترجمة للإنجليزية – قد أثْرت معرفتنا بالحضارتين اليونانية والرومانية ثراءً غير مسبوق. ولكن رغم هذا السبق والتميز يظل تاريخ هاتين الحضارتين مفتقرًا إلى نكهة التعايش عن قرب مع واقع تلك المجتمعات: إن تلك المؤلفات الكلاسيكية الراقية قد كتبها – في الأغلب الأعم – "صفوة" الكتَّاب والمفكرين من الشريحة العليا في مجتمعاتهم ممن قد يكون لهم توجهاتهم الفكرية والسياسية التي قد تفتقر إلى الحيدة الموضوعية؛ هذا فضلاً عن كون كتاباتهم تعبيرًا عن الشرائح العليا في المجتمع من حكام وقادة باعتبارهم المحركين الفاعلين للأحداث مع تجاهل أو – على الأقل – تهميش الفئات الأدنى رغم كونهم المحرك والوقود الحقيقي للأحداث.