تلك، إذن، كانت قضيّة البيّاتي الكبرى مع نصّه الشّعريّ، فإمّا أن يفرغه من طاقته الإنشائيّة، ويحمّله مذهبا في الحياة مخصوصا بغاية التّرغيب في الاقتداء به والتّبشير بمسالكه، وإمّا أن يفرغه من دفئه الإنسانيّ، ويحمله على الافتتان بلعبته الدّاخليّة والشّغف بذاته.وبين ذينك البعدين كانت مغامرة الشّعر شاقّة، فلم تستنكف من الجمع بين الأضداد والنّقائض حتّى لكأنّ طرافتها لا تتأتّى إلاّ من تلك المجاورة العجيبة بين الإيديولوجيّ والشّعريّ، بل لعلّ مزيّتها راجعة إلى انفتاحها على تلك الثّنائيات المتعارضة انفتاحا يدعونا إلى الإقرار بأنّ مملكة البيّاتي الشّعريّة لم تكن إلاّ صدى لتجاذب صوتين: صوت الإنسان المفرط في إنسانيّته الهادف إلى جعل الحياة جديرة بأن تعاش من ناحية وصوت الشّاعر المحكوم بأصول فنّه وشروطه طلبا لقصيدة فريدة لا تتكرّر مرّتين من ناحية مقابلة. ولئن كان الصّوت الأوّل على صلة قويّة بالإيديولوجيا، فإنّ الصّوت الثّاني لم يف إلاّ بمقتضيات الشّعر.